1.    هل مُقَدَّرٌ على لبنانَ أن يكونَ أبداً مخيماً إقليمياً لّلاجئين؟وهل على اللبنانيين الإنتظار كَي يُعيدَ التاريخُ نفسَه؟ لقد دَخَلَتْ أحداثُ سوريا عامَها الرابع وشعبُها يُعاني من دوَّامةِ عنفٍ ورعبٍ ودمارٍ دَفَعَت بملايينِ من أبنائِه الى النزوحِ إلى مناطقَ أكثرَ أماناً داخل وطنِهم، او اللجوء إلى بلدانِ الجوارِ ومنها لبنان. وسريعاً ما ولَّى الإعتقادُ السائدُ في بدايةِ الأزمةِ أن عددَ الوافدين إلى لبنانَ سيكون قليلاً وفترةَ اقامتِهم قصيرةً. فتحوَّلَت التوقعاتُ إذ يوجدُ حالياً مليون نازحٍ(*)مسجَّلين رسمياً في لبنان، إضافةً إلى غير المسجَّلين المقيمين مع أسرٍ لبنانية من معارفَ وأقرِباء، ناهيك عن العددِ الوافر من السورييِّن العاملين أصلاً في لبنان ومِنهُم من يستضيف مزيداً من عابري الحدود ما يرفع، بالتقديِراتِ الرسميةِ، عددَ الرعايا السوريين في لبنانَ إلى 1,3مليون، أي ما يوازي ثُلْثَ المواطنين اللبنانيين المقيمين، فيما تتنامى أعدادُ الوافدينَ بوتيرةٍ عاليةٍ ومُنْتَظِمَةٍ تناهز يومياً ألفي طلب تسجيلٍ ، أي ما فوق الخمسِين ألفاً شهرياً.

(*)ملاحظة: في تعريف “النازحين” و”اللاجئين” وغيرهم.تَمَشِّياً مع التعابير المُتَداوَلة في السياسة والإعلام في ملف الأزمة السورية، َتْسَتعمِل المذكرةُ هذه مصطلحي “النازحين” أو “اللاجئين” دون أن  تَتَبَنّى أياً منهما بل وتعتبرهما غير صَحيحَيْن وفقاً للقانون الدولي الذي يُصَنِّف: (أ) “النازحين” كأولئك الذينينتقلونقسرا إلىمناطق(آمنة)داخل بلدهم، وهو ليس واقع السوريينالوافدين الىلبنان؛ في حين أن (ب) “اللاجئين” هم الذين يعبرونحدودَوطنِهِمويَحْظون  بوضعٍ خاصٍفي البلد المضيف تنطوي عليهالمساعدة والحماية والضمانة ضد الإبعاد، بموجباتفاقية الأمم المتحدةلعام 1951، وبروتوكول عام 1967الخاصالمنبثق عنها. وحيث أن لبنانَليس طرفاًفي تلك الاتفاقية، فهو ليس ملزماً علىإضفاءصفة”لاجئ” على أي فئة مهما كانت ضعيفةومهمَّشة تستقر علىاراضيه -ناهيك عنأن ذلك قد يكونبمسابة إنتحارٍ وطنينظرا للتدفق الهائلللوافدين. لذا تعتبر المذكرةأن“المُهَجَّرين” هو التصنيفَ القانوني الأوفى – وهومزيج منالهجرةالاقتصادية، وهو مايتحول إليه النزوحالسوريإلى لبنانبنحو متزايد، والهروبِ منالظروف القاسيةالسائدة فيبلد الأصل.

  1. عبءٌعلى لبنان غير مُتقاَسم بألتساوي ولا يُحْتَمَل.من الضروري العمل على مواجهةِ تداعياتِ أحداثِ سوريا على لبنان على كل المستويات، ومن ضمنها بل في أساسها، حركة النزوح البشري غير المسبوقة من حيث الأعدادِ والنسب، إذ غدا لبنان يتحمّل العبء الأكبر لمأساة النزوح، كونه أولَ دولةٍ مضيفةٍ للنازحين بكلّ المعايير، أمِنْ حيث الحجم المطلق أو مُقارَنَةً بصِغَرِ مساحَتِه وعَدَدِ سكَّانِه. ومنذ نشوب حرب سوريا أظهر لبنانُ تعاطفاً وتضامناً أخوِيَيْن مع مأساة النازحين رغم الأعباء الباهظة المُتَرَتِّبَة عليها من تأثيرٍ على الإقتصاد الوطني وقدرةِ الدولة، المتآكلة أصلاً، على تلبيةِ الطلبِ المتزايد في مجالات الصحةِ والتعليمِ والبنى التحتيَّة وحفظِ الأمن، وما لذلك من وقعٍ على الخزينةِ من زيادةِ أعباءٍ، وتفاقمِ عجزٍ، وتنامي دَيْنٍ عام. فعلى الصعيدِ الإقتصادي البَحْت، إنَّ الإخلالَ بالتوازناتِ الناجم عن زيادةِ الطلبِ على الخدماتِ بِقَرابةِ 20% بين ليلةٍ وضُحاها نتيجةَ حركةِ النزوحِ المتواصِلة، دونَ مقابلٍ في وفْرَةِ العرضِ، يُجَسِّدُ بمعناها المُجَرَّد “الصدمةَ الإقتصادية” وما يَعْقِبها على المَدَيَيْن المتوسطِ والطويل من تَقَلُّصٍ في طاقاتِ الإنتاجِ وتَرَدِّ في مستوياتِ الرفاهية، خاصةً في بلدٍ كلبنانَ لم يتعافَ للحين من مُخَلَّفاتِ حربِه العَبَثِيَّة من حيثِ إعادةِ تأهيلِ البنى التحتية وبناء المؤسساتِ وتحسين أدائها.

  1. حربٌ ضروس متمادية قد تُحَوِّل اللاجئينإلىمقيمين دائمين.إن جسامةَ الدمارِ في سوريا وهَولَه ورقعةَ إنتشارِه لتُنْذِرُ بِأن مُدَّةَ إعادةِ الترميمٍ والإعمارٍ قد تكون طويلةً بعد عودةِ الهدوء وإستتبابِ السلمِ نظراً لما ألْحَقَ اللجوءُ المُفْرِط للقوَّة من إتْلافٍ وعَبَثٍ بمُنْشَآت السَكَنِ ومرافقِ الأعمالِ وسُبُلِ الإنتاجِ نتيجةَ إستعمال الأسلحة الثقيلة من طائراتٍ ومدرَّعاتٍ بشكلٍ غيرَ معهودٍ في الحروبِ الأهلِيَّة. لِذا على لبنانَ التَحَسُّب بل التَوَقُّع أن إقامةَ النازِحِين على أراضيه سوف تطول بل قد تغدو واقعاً غيرَ قابلٍ للعكسِ. إن التدفُّقَ المُطَّرِد للنازِحين يُلْزِم السلطاتِ اللبنانية إيجادَ حلولٍ فعّالة: (أ) لصونِ السلمِ الأهلي إذ باتَ النزوحُ يُشَكِّلُ موضوعَ نزاعٍ داخلي متفاقم يُهَدِّدُ التماسكَ والتلاحمَ الوطنيَيْن ويَخْلُق نقمةً وتبايناً متزايدَيْن بين النازحين والمجتمعاتِ المُضيفة، حتَّى تلك التي شكَّلت بيئةً حاضِنَةً للنزوحِ في بدء المطاف، أقلّها نتيجةَ إرتفاعِ معدَّلاتِ البطالة واعدادِ الفقراء بسبب مزاحمة النازِحين للمواطنين في أسواق العمل في عَقرِ دارِهم؛ و (ب) لتأمينِ مواردَ كافية بهدف مواجهة الأزمة ودرء تداعياتها المتشعِّبة والتي قد يعصى تصحيحُ بعضِها بعد الآن.

  1. مخاطرُ الجِوارِ وتَأثيرُ مآسي سوريا وشُجونِها على لبنان.هذا وقد أثَّرَت أحداثُ سوريا، بمعزلٍ عن المسائل المتعلِّقَة بالنازحين، بطريقةٍ مباشرةٍ وغيرِ مباشرة على الإقتصادِ اللبناني من حيثُ تراجع الإستثمارات، والتعَثُّر الذي لحِقَ بطرقِ التجارة، إلى المناخِ غير المؤاتي للحركة السياحية، وتقلُّص فرص العمل، وانخفاض إيرادات الخزينة. وكانت النتائج السلبية بيِّنَةً نظراً لإعتماد الإقتصاد اللبناني على قطاعِ الخدماتِ الذي يُشَكِّل نسبةَ 75% من ركيزتِه، والذي يتأثر بشكلِ ملحوظ بالمخاطر الأمنيةِ والسياسية.

  1. تَقْييمٌ مستقلٌ وموضوعي لِوَقْعِ النزاع السوري في لبنان. وقد عَمَدَت السلطاتُ اللبنانية بمساعدةِ البنكِ الدولي والأمم المتحدة إلى تقويمِ أثرِ وكلفةِ أحداثِ سوريا على لبنانَ، ووَقْعِها الإنمائي والإقتصادي والإجتماعي على المدَيَيْن القصير والطويل بهدفِ مواجهةِ ودرء تداعياتِها، ذلك مع التركيز على: (أ) تأثيرِ النزاعِ على الإقتصادِ الوطني أي الناتج المَحَلِّي الكلِّي، ووقعِه الإجتماعي؛ و (ب) طاقةِ الدولةِ على مواجَهَةِ الطلبِ المتزايد على الخدماتِ والبرامجَ في مجالاتِ الصحَّةِ والتعليمِ والبُنى التحتيَّة، والنتائجِ المرتقبة بل الحتميَّة على الماليةِ العامة.

  1. ثَمَنٌ باهظ على الإقتصاد الوطني والخزينة يتعدّى طاقةَ لبنان. تستدعي خلاصاتُ هذا التقويم اليقظةَ خاصةً أنها، على ضخامتِها، لا تعكس إلا الواقعالحالي (فترة 2012-2014) لأحداثٍ ما زالت تتفاقم على نحوٍ تصاعدي في ظلِّ ضبابِ الرؤيةِ لجهةِ متى قد تَسْتَقِرّ الأوضاعُ في سوريا او يظهر الضوءُ في نهايةِ النفق. ويُظْهِرُ التقويمُ: (أ) تَقَلُّصاً في الناتج المحلي يُقَدَّر بمبلغ 7.5 مليار دولار نسبة لما كان يمكن للإقتصاد أن يحققه في غياب حرب سوريا؛ و(ب) كلفةً مباشرة وغير مباشرة على الخزينة تقدر بمبلغ 5.1 مليار دولار، تشمل: 1.1 مليار دولار نفقات جارية مباشرة جرّاء تقديم خدمات للنازحين (من رعاية صحية في المستشفيات الحكومية، وتعليم للأطفال في المدارس الرسمية، ودعم لأسعار الطاقة وغيرها)؛ 2.5 مليار دولار نفقات إستثمارية وصيانة إضافية للحفاظ على مستوى الخدمات المقدَّمة من قبل الدولة قبل إنفجار الأوضاع السورية في العام 2011، وذلك للسكان المقيمين وللنازحين على حدٍ سواء؛ و1.5 مليار دولار تقلُّص في عائدات الخزينة نتيجة تراجع الإقتصاد. لِذا تُثير هذه الأرقامُ تساؤلاتٍ جدِّية حول إمكانية إستدامة سياسات السلطاتِ اللبنانية الحالية لمُقاربة أزمةِ النزوح بما فيها برامجَ المساعداتِ القائمَة.

  1. وَقْعٌ إجتماعي ُيضيف إلىعناءالفقراء فيلبنان.زِدْ على ذلك الكلفةَ الاجتماعية لحركةِ النزوحِ التي أدَّت إلى وِفْرَةٍ ضَخْمَةٍ في اليدِ العاملة، ما يساهم في تراجعِ معدَّلاتِ الأُجور ويؤثِّر بشكلٍ ملحوظ على مستوى معيشةِ المواطنين بما في ذلك خاصةً: (أ) إرتفاع عدد الفقراء في لبنان، والمقدر عددهم بمليون أصلاً، إلى مليون ومائة وسبعين ألفاً؛ و (ب) إرتفاع معدَّل البطالة إلى ضعفِ نسبته الحالية، لا سيما اليد العاملة غير المؤهَّلَة في المناطق الأشد فقراً والأقل إنماءً والأكثر إهمالاً(الشمال والبقاع) والتي بواقعِ الجغرافيا تَشْهَد أعلى كثافةٍ للنازِحين، مايدفع أحياناً بهذه الفئات إلى حركة نزوحٍ داخلي يزيدها مآسٍ وتهميشاً؛ وسعياً وراء لقمةِ العيش، غالباً ما يكون النزوحُ بإتجاه العاصمة وضواحيها حيث تتمركز النشاطاتُ الإقتصادية الرئيسية، وبالتالي فرصُ العملِ، إن وُجِدَتْ! فعسى أن لا نَشْهَد قريباً نشوءَ “ضاحيةٍ شمالية” يَكْتَظُّ فيها فقراءُ عكَّار والضنيِّة وباب التبَّانة نتيجة تردِّي أحوالِهِم المعيشيَّة والأمنيَّة، وهي بِمُنْتَهى الهَشاشَةِ في الأساس.

  1. نارٌ مُستَعِرَة في سوريا تَمتَدُّ لِهابُها إلى لبنان. إن ضرورةَ الحدِّ من وطأةِ النزوحِ وكثافتِهتَمُتُّ عضوياَ بِصِلَةٍ إلى إستقرارِ لبنانَ والحفاظِ على توازناتِه الديموغرافيَّة والمناطقيَّة والعمرانيَّة والبيئَّية والإقتصاديَّة والإجتماعيَّة ناهيك عن السياسيَّة والأمنيَّة،فلا يغدو عرضةً لأعباءَ ومخاطرَ تفوقُ إمكاناتِه الذاتيَّة وتُهَدِّدُ سلمَه الأهلي وتماسُكَ مجتمعِه. إن عمليةَ ضبطِ وجودِ النازحين السوريين في لبنانَ يُشكِّل جزءًا هامًا من العلاقات اللبنانية-السورية التي ما زالت تنتظر الحلول، وهي ضرورية وفي شكلٍ حيوي للبنان، لأنها تنزع قسمًا من فتائل الصراع ومخاطره على الأراضي اللبنانية، لاسيما أن بين الوافدين إلى لبنان مَنْ يُعادون نظامَ دمشق وربما تُحرِّكُ بَعْضَهم مصالحُ أخرى، ومنهم من يؤيِّد النظامَ القائم الذي يحتلّ موقعًا مهمًا في القدرة على التحرُّك والتأثير في لبنان، سياسيًا وأمنيًا، مُقارَنةً بجهات أُخرى، إقليمية وغير إقليمية، مُتدخِّلة في الشأن اللبناني. وأخطر ما في هذا الواقع، هو إمكان إمتداد نزاع سوريا الداخلي إلى الأراضي اللبنانية، لاسيما أن اللبنانيين أنفسهم على تباينٍ في المواقف والتحالفات ووجهات النظر حيال هذا الصراع بخلفياته وأبعاده ونتائجه. وقد غَدَت حربُ سوريا عابرةً للحدود اللبنانية، ومنعكسةً على مواقف أطرافٍ لبنانيين منها. (يكفي التأمُّل مثلاً في عملية التصويت في الانتخابات الرئاسية السورية في مراكز الإقتراع في لبنان، وهي في المبدأ تسجيد لممارسة ديمقراطية لا تَمُتُّ إلى العنف والشغب بِصِلَة، وما أحدثته من بلبلةٍ ونقاشاتٍ ومواقف ومخاوف لدى اللبنانيين وبينهم، لتكوين فكرة عن إمكانية بل سهولة تَحَوّل لبنان إلى ساحة تجاذبات للشؤون السورية ما بين نظامٍ ومعارضة حيث يعمل كلاهما من أجل تنفيذ أجندته الإقليمية والسورية وربما اللبنانية.) زد على ذلك المخاطر والتداعيات الأمنية الناتجة من وجود أعدادٍ هائلة من السوريين الذين تدفعهم حالُهُم الإقتصادية والإجتماعية المزرية إلى الإخلال بالأمن والعبث بسلامةِ المواطنين وممتلكاتهم، كما يُثبِت ذلك عددُ الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية وهو على تزايدٍ يوماً بعد يوم.

  1. قضيَّةُ تَخَطَّت الأكلافَ إلى الأعدادِ.لذا فعلى لبنانَ اليقظةُ قبل فواتِ الأوان وَالعَمَلُ بكل مُكَوِّناتِه الوطنية وفئاتِه السياسية، وعبرَ مؤسساتِه أجْمَع، على مواجهةِ تداعياتِ حركة النزوح البشري غير المسبوقة، وإعتمادُ سياسةِ خَلاصٍ واقعيةٍ نابِعَةٍ من إجماعٍ وطني راسخٍ لإيجادِ حلولٍأشْمَلَ وأجدى وأشْجَعيَجْري التوافقُ عليها داخلياً والتنسيقُ لها خارجياً مع الدولِ المعنيَّةِ والفاعلة، خاصةً تلك التي لم تنأ بنفسها عن الصراعِ في سوريا وعليها. فلم يَعدْ من المسموحِ أو المُمْكِن حصرُ معالجةِ أزمةِ النزوح المُطَّرِد بإستجداءِ معونةِ الجهات المانحة، مهما جادَتْ بالوعودِ، وهي غالباً ما تَشحُّ بالدفعِ وتَتَباطأ بالتنفيذ؛ بل على السلطاتِ اللبنانية تجاوز هذه المقاربة وإعادةَ النظرِ في: (أ) سياساتِها لضبطِ وإدارةِ وتنظيمِ حركةِ النزوح؛ و(ب) طبيعةِ ومحتوى رزمة الخدمات المقَدَّمَة للنازحين والأُطُر العملية الأنسب لتوفيرِها. وعلى هذه السياسة الوطنية أن ترتَكِزَ على المبادئ التالية، متلازمةً ومتوازية:

  1. أولاّ، على السلطاتِ اللبنانية، فيما تلتزم مسؤوليتها كبلدٍ مضيف، العمل على ترشيِدِ برنامجِ المساعداتِ للنازِحين المقيمينً على إمتدادِ أراضيها.فبِهَدَفِ تحقيقِ إستدامةِ برنامجِ المساعداتِ هذا على السلطاتِ إعادة النظر برزمةِ الخدماتِ المقدَّمَة على فرضيّة “أن إقامتَهم في لبنانَ موقتةٌ بانتظارِ أول فرصة للعودة إلى الديار”. فالواجب الأخلاقي والإنساني للدولة المضيفة وسلطاتها الرسمية خلال هذه الفترة المحدَّدَة هو تقديم مستوى من الخدمات الحيويَّة يتناسبُ والمعاييرَ المتَّبَعَة للجوءِ عالمياً، ولا يتعدَّاها. إن سياسةَ لبنانَ الحالية — وقد باتَتْ تفوق قُدْرَةَ الدولةِ — والمبنية على معيارِ خدماتٍ موحَّد للمواطنين والنازحين من شأنها أن تُشَجِّع وتُعَزِّز وتُحَفِّز هجرةَ السوريين إلى لبنانَ المجاور والمضياف، وهي رحلة سهلة في الأساس. لقد غدا واضحاَ أن النزوحَ إلى لبنانَ لم يعد بدوافعَ أمنيةٍ هروباً من العنفِ فحسب، بل هجرةً ذات حوافزَ إقتصادية توخياً لمستوى حياةٍ أفضل نظراَ لِتَرَدّي بل تَدَهْوُرِالإقتصادِ السوري وتفاوت مُعَدَّلاتِ الدخلِ وجودة الخدمات ما بين لبنانَ وسوريا، علاوةً على أن المواطنَ السوري بِمُجَرَّدِ تسجيله على قوائم هيئاتِ الإغاثة في لبنان، يَحْصَلُ على خدماتٍ مجّانيَّةٍ أو مدعومةٍ إلى حَدِّ كبير. وما من برهانٍ لهذا الواقع إلاّ إنتظامِ حركةِ الدخولِ إلى لبنان – بما في ذلك من مناطقَ بعيدةٍ ليست حدودُ لبنانَ الأقربَ إليها (كَحَلَبَ مثلاً وهي على قَبِّ قوسَيْن عبرَ رحلة آمنة إلى حدود تركيا)، او تَقَع خارجَ حلبةِ الإقتتال – والتسجيل اليومي المُبَرْمَج لدى هيئات الإغاثة بوتيرةٍ تكاد تكون ثابتةً بِغَضِّ النظر عن واقعِ الصراعِ والتطوُّراتِ الأمنيَّة والميدانيَّة في سوريا.

  1. ثانياّ، علىالسلطاتِ اللبنانية ضبط وتنظيمِ وغربلة وإدارةِ حركةِ تَدَفًّق النازحين. لذا فعليها أن: (أ) تُحَدِّد مواصفاتٍ موضوعية للتمييزِ ما بين من هو لاجىء حربٍ بِوَجْهِ حَقّ، ومن يتوخّي الهجرةَ الإقتصادية، وعليه يُجْرى التحقق على المعابر الحدوديَّة أن شروطَها مُسْتَوفاةٌ فعلاً من قبلِ طالبي الدخول إلى أراضيها؛ (ب) تَقْرُن بذلك معاييرَ للتقديماتِ والخدمات لمن إستوفى صفةَ لاجىء حربٍ وِفْقاً للمواصفاتِ الموضوعة، مع إعادةِ التشديد على أن إمتيازاتِ وحقوقِ المواطنين اللبنانيين في ما يحْصَلون عليه من تقديماتٍ وخدماتٍ كَماً ونَوْعاً، لا يمكن أن تُشَكِّل، وهو العرف الدولي، معياراً للمعوناتِ المقدَّمة لنازحي الحرب؛ (ج) تُعْلِن بموازاة ذلك أن السياسةَ هذه لا تعني ولا تَهدف إلى إغلاقِ حدودِها بوجهِ طالبي اللجوء هرباً من العنفِ والإضطهاد بل تتَوخّى وضعَ سياسةِ مراقبَة حدودٍ فعَّالة حَيِّز التنفيذ، ما هو من أدنى ُمَتطَلّباتِ السيادة؛ و (د) تَعْهَد إلى القواتِ المسلَّحَة اللبنانية الدورَ الأساسي في رسمِ خطةٍ متكاملةٍ من إجراءاتٍ وتدابيرَ ميدانية، خاصةً على إمتدادِ الحدودِ الشمالية والشرقية، تسمح من جهةٍ مراقبةَ حركةِ النزوحِ وغربلتَها، ومن جهةٍ أُخرى تأمينَ سلامةِ الأراضي اللبنانية، وهي تدابيرٌ لا بُدَّ أن تَحْظى بمعونةٍ تقنيةٍ وماديةٍ من الجهاتِ التي تَضْمُر للبنانَ خيراً .

  1. ثالثاً، على السلطات اللبنانية، السيِّدة على إمتداد أراضيها، الإستئثار برسم سياسة إدارة ومواجهة أزمة النزوح.لذا فعليها أن تستعيد المبادرةَ، اليوم قبل الغَدّ، فتقْبِضُ على زمامِ الأُمورِ بتولِّيها حَصْرِياَ، وذلك عبر أجهزتِها ومؤسساتِها الوطنية، إدارة هذا الملف المصيري وفقاً للبرامِج المنبثقة عن ما سُمِّيَ “خارطة الطريق للتدخُّلاتِ ذاتِ الأولوية” التي وَضَعَتْها الحكومةُ اللبنانية لدرءِ تداعياتِ أزمةِ النزوحِ بما في ذلك على المُجْتَمَعاتِ المضيفة. وعليه فمن الضروري — نظراً لتضارب الصلاحيّات والمصالح وتداخل عمليات الجهات المانحة ومساعداتِها من دولٍ ومنظماتٍ وهيئاتٍ وجمعياتٍ كلّ حَسْبَ أولويّاتِه وسياساتِه وإمكانيّاتِه — أن تَنْدَرِجَ كل أعمالِ ومساهماتِ المانحين وعمليات الإغاثة في إطارِ خُطَّةِ الدولة هذه وضمنها، بإشرافٍ حثيثٍ من المؤسسات اللبنانية المَعْنيَّة وبقرراتها السياديّة. ذلك تطلّب توضيحًا عمليًا لهذه المسؤولية بدأً بإحصاءٍ دقيق لأعدادِ النازحين وتوزُّعِهم عبرَ الأراضي اللبنانية.

  1. إضافةً، على السلطاتِ اللبنانيةأن تواصل التشديد والإصرار، للحقِّ والتاريخ، على موقفَيْن مبدئيَيْن وجوهريَيْن — “تقاسم الأعباء والأعداد” و”مناطق آمنة للسوريين في سوريا”أعلنتهما تكراراً، بما في ذلك بلسانِ فخامة رئيس الجمهورية، دون أن يَلْقَيا آذاناَ صاغية لدى “المجتمع الدولي” الذي، تبعاً لمبدأ الحرصِ على حقوقِ الإنسان يُعارضُ أيَّ سياسةَ نزوحٍ مَشْروط، ويرى في لبنانَ خَطَّ دفاعٍ وجِدارَ عزلٍ أوَليَّيْن لإحتواءِ حركةِ الهجرةِ وإحتضانِها ولجمِها مَنْعاً لِبُلوغِها شواطِئه وديارِه:

  • المبدأ الأول، وهو “تقاسم الأعباء والأعداد”،أنه مهما تَعَثَّرَت الأوضاعُ في سوريا، للبنانَ طاقةٌ محدودة يجب الإتفاق عليها رقماً وكما،ً لعدد النازحين الذين يُمْكِنُ له إحتضانُهم على أراضيه إلى أجلٍ مُسَمَّى في ظروفٍ تُؤَمِّنُ لهم حداً أدنى من العنايةِ والكرامةِ، وتُحافِظ على إستقرارِ لبنانَ وأمنِ المناطق التي يحِلُّونَ فيها وسلامَةِ أهاليها. في إطار هذا المبداء، لِكُلِّ دولة معنيَّة، وبِخاصَةٍ دولَ الجوارِ، أن تُحدِّدَ أعداداً للوافدين إلى أراضيها، تُراعَى فيها طاقاتُ البلدِ ومساحاتُه الآهِلَة وكثافتُه السكّانيَّة. وعندما تتجاوز الأعدادُ الأرقامَ المُتَّفَق عليها يُصارُ إلى إعادَةِ توزيعِ النازحين الى الدولِ التي ما زال لديها قدرة على الإستقبال والإستيعاب حَسبَ وضمنَ الأرقام المُتَّفَق عليها مُسبَقاً. وقد يَتَطَلَّب ذلك من السلطات اللبنانية إعادةَ النظرِ بالإجراءاتِ الحالية لإستقبالِ الوافدين وإيوائهم، ووضعَ الحلول والترتيبات اللوجستية الموآتية، كإحداثِ مراكزَ تجمُّعٍ وإحصاءٍ للنازحين يمكن فيها ترشيدُ الإمدادِ بالمساعدة، وتنسيقُ سياسةِ إعادة الإنتشار وإدارة عمليَّاتها. وهذا الحَلُّ جديرٌ بالدرسِ رغم عدم حماسة لبنان لإنشاء تَجَمُّعاتٍ لِما لتجربةِ المخيماتِ الفلسطينية من صدًى في الذاكرة.

 

  • المبدأ الثاني، وهو “مناطق آمنة للسوريين في سوريا”، أنه نظراَ لتطوِّرِ الأوضاع الميدانيَّة للقوى المتصارعة في سوريا والذي أفْرَزَ مناطقَ آهِلَة غيرَ مُتَنَازَع عليها وخارجة عن دائرة العنف، وإعتباراً لموقعِ لبنانَ ووضعِه الهَشّ نتيجة موجة النزوح العارمة، على الجِهات الفاعلة المعنية بمأساة سوريا أن تعمل بحزمٍ وعزمٍ لتَحْيِيد هذه المناطق السورية الآمِنَة، ما يَسْمَح بإمدادِها بالمساعداتِ الإنسانية المطلوبة في إطارِ مُجَمَّعاتٍ تُنَظَّمُ وتُجَهَّزُ لإستقبالِ وإيواءِ وحمايةِ من غادَرَ قسراً مناطقَ النزاع. فَيُمْكِنُ عندها تعزيزُ سلامةِ المدنيِّين دونَ تشريدِهم خارجَ وطنِهم، والحَدُّ من أعباء النزوح وتداعياته على دول الجوار وأهاليها، بما في ذلك لبنانَ واللبنانيين.في هذا الإطار، على لبنان المثابرة في متابعة الإتصالات الدولية والإقليمية من أجل توفير عودة النازحين إلى حيث زالت مسبِّبات الحرب في سوريا، وإقامة مخيمات للباقين داخل الأراضي السورية.أما المعارضة لهذا الطرح فتقوم على المبدأ القائل أن تطبيقَه في غيابِ قراراتٍ مُلْزِمَة من مجلسِ الأمن الدولي (فصل سابع إلخ…) يَشْتَرِط موافقةَ طَرَفَي النزاعِ لِتَأمينِ حمايةِ قاطِني المُجَمَّعات، وهو أمر غير واردٍ حالياً خاصةً وان أعضاءً فاعلين في المجتمع الدولي (أميركا، الإتحاد الأُوروبي، والجامعة العربية) قد نزعوا صِفَةَ الشرعية عن السلطةِ القائمةِ في سوريا، ما يُقْصيها تلقائياً كَمُحاوِرٍ وَجِهَةٍ ضامِنَةٍ لسلامَةِ أي مجمَّعات داخل أراضيها.

14.    وخُلاصةً، لبنان يفتقد سياسةإنقاذ وطنيجامعة لإدارةمشكلة اللاجئين.إذ أينَ وإلامَ سياسة لبنانَ منهذه “القضية”؟ أغَدا لبنانُ أرْضَ ساسَةٍ دونَ سياسة، عَدا رُبَّما سياسة النَعامة؟ لِنُقِرُّ أن حركةَ النزوحِ مِنْ مُسْتَهَلِّها وإن بأحجامٍ متواضِعَة، لم تلقَ العنايةَ الواجِبَة وكأنها من السُحُبِ العابِرَة. فبينما كانت، وما بَرِحَت، أعدادُ الّلاجئين تتنامى بوتيرةٍ مُقْلِقَة، كان وما زال اصحابُ الرأي والفصلِ مُنْهَمِكين دورياً بإخراجِ قانونٍ لم يُبْصِر النورَ لإنتخاباتٍ لم تُنْجَز، أو تأليفِ حكومةٍ عسيرةِ المَخاض، أو صِياغَةِ بيانٍ وزاري بزوايا عصيَّة على التدوير، أو إنتخابِرئيسٍ للجمهورية إذا حصل، لِيُعادَ تأليفُ حكومةٍ يَليها التحضيرُ لإنتخاباتٍ نيابيةٍ على رجاءِ إقرارِ قانونٍ مُنْصِفٍ قبل إعادة تكليفٍ وتأليف… زِدْ على ذلك، ولَعَلَّه خَلْفَ كلِّ ذلك، تضارب الآراء والمواقف والمصالح ما بين مكوِّناتِ الوطنِ من عائلاتٍ روحيَّة وفِئاتٍ سياسية وتيَّاراتٍ فكرِيَّة، وَجَدَ البعضُ منها في قوافلَ النازِحين زَخْماً لأعدادِه أو تعزيزاً آنياً لصفوفِه، فتجاهَلَ وغَضَّ النظر، إن لم يفُتْهُ اليقينُ، عَمّا قد يُلْحِقُ النزوحُ في الأمدِ الطويل بالوطنِ مِن آفاتٍ ونَكَباتٍ وتَصَدُّعاتٍ تُهَدِّدُ الإستقرارَ بل الكيانَ والمَصير.