١. َغدَت أزمة النفایات في لبنان من الأزمات المستعصیة التي تعجز السلطات المختصة عن معالجتھا بحیث أصبحت عرضة للتجاذبات القائمة بین القوى السیاسیة حال أیة معضلة أخرى، حتى أن ھاجس الطوائف تسلل إلى حاویات القُمامة ومطامرھا لیضیف إلى دَرنھا تعقیداً. وإلى صعوبة الملف وتداعیاته، وأبعاده البیئیة والصحیة، فإن أخطر ما فیه، أمام عجز الدولة عن إیجاد الحلول المؤاتیة له، ھو تحیید ھذه الأخیرة عملیاً لوزاراِتھا ومؤسساِتھا المختصة ـ وزارة البیئة، وزارة الداخلیة والبلدیات، مجلس الإنماء والإعمار، ومنظومة البلدیات وإتحاداتھا ــ عن الملف الذي یعني ھذه الوزارات والمؤسسات بشكل رئیسي.

٢. ومع إنكفاء دور المؤسسات المختصة والمسؤولة عن إدارة الملف، فقد أوكلت الأزمة بعد تفاقمھا إلى لجان عرضیّة (ad hoc) یرأسھا من لا صفة قطاعیة له، فیما أخذت البلدیات تتقاذف الملف ككرة نار. كما ٍَِ برزت “مرجعیات” عدّة من حركات بیئیة، وتحركات میدانیة، وحراك مدني لتستأثر بالملف، تصول وتجول فیه من منطلقات فنیة، وقطاعیة، وسیاسیة واجتماعیة في آن معاً، لتطرح حلولاً أقل ما یُقال فیھا أنھا لم تحظ بتوافق واسع حول صوابھا أو جدواھا. فالعدید من الطروحات والإقتراحات تبنت فكرة التخلّص الكلّي من النفایات (wasteـzero) أكان ذلك عبر تقنیة التفكك الحراري، او”ترحیل” النفایات ــ وكأن العالم، وخاصة الدول المتقدّمة فیه، تواقة لاستیراد القمامة، ناھیك عن إجراءات التوضیب ومعاییر الصحة الصارمة المنوطة بنقل النفایات عبر الحدود وما یترتب عنھا من أكلاف باھظة. وعل البعض قد بالغ بتصویرالنفایات وكأنھا من نادر الثروات والمواد الخام التي یمكن تدویرھا إلى سلع إستھلاكیة أو تحویلھا إلى طاقة كھربائیة ــ ما یعني، في نھایة المطاف، تقنیّات تستبعد مبدأ المطامر البیئیة كلّیاً. في ھذه الأثناء، تتراكم جبال النفایات على أرصفة المدن وفي ساحاتھا بسبب إقفال المكبات ــ وبخاصةً المكب المعتمد سابقاً وھو مطمر الناعمة ــ قبل توفیر بدائل تُنقل أكوام القمامة والنفایات إلیھا.

٣. وتُبیّن الدراسات ان ٩٠٪ من النفایات الصلبة في لبنان ھي نفایات منزلیة یُنتج منھا لبنان حوالي ستة آلاف طن یومیاً. وتُصنف ٦٠٪ من ھذه النفایات كعضویة لیتوزع الباقي بین الورق والكرتون والمواد البلاستیكیة والزجاج والمعادن، اضافة الى العوادم وھي النفایات الخطرة كالبطاریات والأدویة وعبوات مواد التنظیف فضلاً عن نفایات المسالخ والمزارع والمستشفیات التي لا تزال تُرمى في المكبّات العشوائیة.

٤. وإلى حدّ ما، لقد تم في لبنان، منذ سنة ١٩٩٣، تغییب الجھات المعنیة عن ملف النفایات من وزارات وسلطات بلدیة، لیتم توكیله عبر عقود بالتراضي لشركتي سوكلین وسوكومي في ما یخص بیروت وجبل لبنان، بكلفة مقدّرة بحوالى ٧٥ ملیون دولار سنویاً تدفع مباشرةً من الصندوق البلدي المستقل. وتشمل ھذه العقود جمع النفایات ومعالجتھا من فرز وتوضیب وتسبیخ وفرم اضافة الى التجمیع والنقل. ومع إنھاء عقد سوكلین وسوكومي، طرحت الحكومة مناقصات جدیدة سرعان ما قررت إلغاءھا لما شابھا من لغط وتأویلات. وحسب ما أوردته الصحف، فھذه المناقصات قد “رست على أسعار تراوحت بین سقف أعلى ٢٠٥ دولار، وسقف أدنى ١٢٣ دولار للطن الواحد أي أعلى من أسعار سوكلین…. وفسرت وزارة البیئة ذلك بأن ھذه الأسعار تشمل اقامة معامل للمعالجة وتحضیر وتجھیز المطامر، حین كانت شركة سوكلین تشغّل معامل موجودة، كما أن ھذه الأسعار تشمل الكنس الذي لم تكن سوكلین تقوم به خارج بیروت. وكان دفتر الشروط قد طلب من العارضین تحدید سعر الجمع والمعالجة وكذلك الكنس وھو الذي تسبب بالفارق مع السعر الذي تتقاضاه سوكلین، في حین ان ثمة خفضا في بعض المناطق مثل كسروان والمتن وجبیل حیث بلغ سعر طمر الطن ١٢٣ دولاراً في مقابل ١٦٠ دولاراً تتقاضاه سوكلین”.

٥. ولقد كان ِلطرح الحكومة بانشاء مطامر خارج العاصمة بیروت لاستقبال نفایاتھا رفض شعبي عارم في المناطق من عكار إلى النبطیة والبقاع والشویفات،… سواء في مطامر جدیدة تُنشأ خصیصاً لھذا الغرض أو في تلك التي كانت قائمة في السابق بعد الوعد بتأھیلھا. وكان الرفض انطلاقاً من مبدأ “لكل قمامته”! فھل یقبل أي منزل في عمارة ما أن تغدو سلّة مھملاته ــ وھي مقبولة بل ضروریة لأھل البیت ــ مكباً لقمامة وحدات البنایة كلّھا؟ وكیف لأي بقعة أرض أن تقبل نفایات ما لا یَمت الى دائرتھا السكنیة أو الجغرافیة بصلة؟ فرفض الأھالي استقبال نفایات الغیر یعود الى الضررالقائم والمحتمل من جراء تحویل ھذه المكبّات، وھي عشوائیة في الأساس، إلى مواقع أبدیة (كما ھي حال موقع الناعمة) مع التلكوء في تأھیلھا إلى مطامر صحیة، إضافةً الى عدم تبیان ملاءمة بعض المطامر المختارة للمعاییر البیئیة والصحیة. ھذا ِبغَض النظر عن الأعباء المالیة الإضافیة الناتجة عن نقل النفایات إلى أقصى تخوم الوطن كما قد یكون الحال في موقع سرار في عكار.

٦. وفي واقع الأمر، قضیة النفایات لیست ولیدة الساعة، إذ كانت موضوع دراسات عد َّة من جانب الحكومة، بدء ” الخطة الشاملة لترتیب الأرضي اللبنانية” سنة ٢٠٠٥ (وان لم تِقرها الحكومة إلا في العام ٢٠٠٩)، والتي اقترحت، في مقاربة أولية، تقسيم لبنان إلى ١١ منطقة لكل مطمرها. ثم تَلتھا عام ٢٠٠٦ “الاستراتجیة المقترحة لإدارة النفایات المنزلیة الصلبة” التي تم اعدادھا من قبل مجلس الإنماء والإعمار، بالتعاون مع وزارتي البیئة، والداخلیة والبلدیات ــ والتي قَل ما إستُذكرت في المداولة والنقاش القائمین ــ وتضمنت بفحواھا إیجاد مراكز للطمر والفرز والتخمیر في كافة المناطق اللبنانیة وعلى إمتدادھا، إضافة الى إشراك القطاع الخاص بإدارة النفایات الصلبة. فقد قَسمت ھذه الخطة لبنان الى أربع مناطق خدماتیة ــ محافظتي الشمال وعكار، محافظتي البقاع وبعلبك – الھرمل، محافظتي الجنوب والنبطیة، ومحافظتي بیروت وجبل لبنان ــ مع تحدید المطامر الصحیة وھي بعدد ٢٨ (حسب الجدول والخارطة المرفقَین) مع محطات فرز وتسبیخ في كل منھا. وقد ُحدّدت المواقع كلّھا بناء على دراسة جیولوجیة وافرة.

٧. ومع تأخر تنفیذ خطة ٢٠٠٦، جاء القرار رقم ٥٥ ، تاریخ ٢٠١٠/٠٩/١ ، لیُدخل علیھا تعدیلات طفیفة ولإستكمالھا بقرار من عشر نقاط بما فیھا درس تكنولوجیا وامكانیة تنفیذ أنظمة تحویل النفایات الى طاقة في المدن الكبرى، إنما یُ َج ِدّد إلتزا َم الحكومة بخطة ٢٠٠٦ الأساسیة التي تشمل مطام َر عبر كل الأراضي اللبنانیة. أ ِض ْف الى ذلك قرار مجلس الوزراء رقم ٤٦، تاریخ٢٠١٤/١٠/٣٠ ،الذي قدمتھ وزارة البیئة، أي الجھة الوزاریة المسؤولة عن سیاسة النفایات الصلبة، والذي یُعرف بالخطة الوطنیة للنفایات. وتعتبر ھذه الخطة شاملة ومتكاملة جغرافیاً وزمنیاً وبیئیاً ومالیاً وتفتح في نفس الوقت المجال أمام مختلف التقنیات والإبتكارات للمشاركة في المناقصات المتعلقة بالقطاع. وقد اعتبرت وزارة البیئة ــ وربما في ذلك كان تس ُّرع ــ أن وض َع القرار رقم ٤٦ حیز التنفیذ سوف یسمح بإقفال مطمر الناعمة مع تأمین البدیل العملي دون اختلاق أزمة للمواطنین في القرى والبلدیات المعنیة. وكانت مقاربة وزارة البیئة خطتَھا الأولى من نوعھا من حیث شمولیتھا، سواء في الشق التنفیذي القائم على كنس النفایات وجمعھا ونقلھا ومعالجتھا مع التخلص النھائي من العوادم، أو في الشق القانوني عبر تشریع یحدد الاطارالعام لإدار ٍة متكامل ٍة للنفایات الصلبة، أو في الشق التخطیطي، بمدیَ ْیھ المتوسط والطویل، الذي یتضمن إعداد تقییم بیئي إستراتیجي للنفایات الصلبة. كما أن الخطة لا تُ ْغ ِفل مسألة العدالة فیما یتعلق بتح ُّمل الأوزار، وذلك من خلال التعویض على البلدات (كالتي استضافت مطمرا لأكثر من ١٧ سنة)، تعویضا مالیا،-او مالیا غیر مباشر، أو وقایة صحیة. وأخیراً ھنالك التوعیة البیئیة من خلال تعمیم ثقافة الفرز من المصدر وصولاً الى اللامركزیة في ادارة النفایات الصلبة.

٨. وفي الختام، فقد تخ َّطت أزمة النفایات حدود المعقول والمقبول لما لھا من تداعیات وانعكاسات على الصحة والبیئة، وھي تتطلّب حلاً شاملاً، عاجلاً عبر اطلاق خطوات عملیة لتفادي كارثة حتمیة، بما في ذلك :
)أ( ـ إعادة مسؤولیة إدارة الملف إلى مؤسسات الدولة المعنیة، وبالتحدید وزارة البیئة، ووزارة الداخلیة والبلدیات، ومجلس الإنماء والإعمار، ومنظومة البلدیات وإتحاداتھا. ولھذه المؤسسات قرار التواصل كما تراه بھیئات المجتمع الأھلي لما فیھ المصلحة العامة لإیجاد الحلول المؤآتیة.
)ب( ـ العودة إلى المرسوم الإشتراعي رقم ٧٧/١١٨ لسنة ١٩٧٧ المتعلق بتوزیع واستخدام أموال الصندوق البلدي المستقل ــ بما في ذلك ما یعود الى بلدیات بیروت وجبل لبنان ــ لتسترجع كل البلدیات مسؤولیاتھا في موضوع النفایات. وفي ھذا النطاق یصلح العزوف عن الإعتماد بشكل رئیسي على مركزیة المعالجة ضمن إستراتجیة تُعنى أیضاً بحمایة المیاه الجوفیة، ما قد یشكل نموذ ًجا ریادیًا في تحقیق اللامركزیة وتوعیة المجتمع في آن واحد.
)ج( ـ الرجوع الى الخطة الوطنیة الشاملة وأساسھا “الاستراتجیة المقترحة لإدارة النفایات المنزلیة الصلبة” التي اعد َّھا مجلس الأنماء والأعمار عام ٢٠٠٦، المعت ِمدة على المطامر الصحیة )٢٨ مطمر عبر المناطق( مع التعدیلات ال ُمد َخلَة علیھا بالقرارین رقم ٥٥ )٢٠١٠/٠٩/١( و رقم ٤٦ )٢٠١٤/١٠/٣٠(.
)د( ـ الإتفاق على معالجة سریعة للنفایات التي تراكمت عبر الأشھر المنصرمة منذ “إندلاع” الأزمة، ما قد یتطلب تدابیر وأسالیب جذریة )ترحیل، إحراق…( لم َّرة واحدة لا تشكل أساساً ومرجعاً للسیاسات والحلول التى یجب أن تُعتمد بشكل مستدام.
٩. ولا بدّ للخطة أن تعو َل أیضاً على الفرد والعائلة، ومن ثم على السلطات العامة. فعلى الفرد بادئ ذي َ ِّ ّ
بدء الإحجام عن الإستھلاك المفرط الم َولد للقمامة، ومن ثم تبیان ما یصلح منھا للتدویر مما ھو مواد عضویة. “وع ّل ضارةً نافعة” إن كانت أزمة النفایات الخانقة والمستعصیة التي یتخبّط فیھا المواطن رادعاً للإستھلاك العقیم وحافزاً للفرز من المصدر. أما البلدیات، فمسؤولیتھا حسب العرف المت َّبع في العالم، فھي نظافة الشوارع والباحات العامة، ونقل القمامة من الحاویات إلى مراكز الفرز والطمر.
/مرفقات سمیر الضاھر ٢٥ تشرین الثاني ٢٠١٥